قواعد الجرح والتعديل
الحمد لله وحده وسع الخلائق خيره ، ولم يسع الناس غيره، والصلاة
والسلام على الهادي البشير والسراج المنير ,وعلى آله وصحبه والتابعين لهم
بإحسان إلى يوم الدين
أمابعد
قال الشيخ الصياح _ وفقه الله_: إذا كان التعارض صادرا عن أكثر من إمام ، في هذه الحالة يٌراعى قواعد الجرح والتعديل، وهي:
القاعدة الأولى : أهلية الناقد لقبول قوله :
لابد أن يتحلى الناقد بأربع صفات هي:
1-صلاح الدين : وهذه
صفة تقتضي بالضرورة أن يكون مسلماً ، ولا يعرف فيمن تعرض لنقد الرواة من
كان غير مسلم .والصلاح يستلزم قدراً من المحافظة والعمل الصالح ، أدناه حفظ
الفرائض والواجبات ، وترك المحرمات .والمعتبر في الواجب والمحرم ما ليس
محل خلاف ،وعليه ؛ فلا يقدح في أهلية الناقد أن يذهب مذهباً يحتمله
الاجتهاد ، سواء كان في قضية علمية أو عملية ، ويكون مخطئاً في مذهبه .
ونعني بالقضية العلمية الغلط في بعض فروع الاعتقاد، ولما وقع الاعتذار عنهم
بالتأويل ؛ لم يكن ذلك مسقطاً لاعتبار كلامهم في التجريح والتعديل
2-حفظ الحديث والمعرفة به وبأهله :.
فالناقد يحتاج إلى خبرة ودراية بالمروي ليقايس به ويبني على وفقه موافقة
ومخالفة تمييز حال الراوي ، ولا تتهيأ له تلك المعرفة دون سعة حفظ واطلاع
على الأسانيد والمتون ، إضافة إلى دراية بمواضع الاتفاق منها والافتراق ،
وهذا يستلزم معرفة بجانب من فقهها معانيها .
يصدق ذلك : أن الناقد يسعى
إلى إثبات عدالة الراوي وضبطه ، فإن كان فاقداً للعدالة أو الضبط في نفسه
فكيف يقدر على الحكم على غيره ، فأما عدالته فكما مر في بيان الصفة الأولى ،
وأما الضبط فمن كان كثير الخطأ في نقله وعلمه ، أو ضعيفاً ، أو متهماً
بكذب ، فهذا قد سقط بسقوط درايته بحديث نفسه ، فكيف يدري حديث غيره فيتمكن
على وفق درايته من نقده ؟!
قال أبو داود السجستاني : قلت لأحمد ( يعني
ابن حنبل ) : عمير بن سعيد ؟ قال : " لا أعلم به بأساً " ، قلت له : فإن
أبا مريم قال تسلني عن عمير الكذاب ؟ قال : وكان عالماً بالمشايخ ، فقال
أحمد : "حتى يكون أبو مريم ثقة "؟.
يقول أحمد : إنما يعتد بكلامه لو كان ثقة , أما وهو رجل مجروح ساقط ، فلا .
وأبو مريم هذا هو: عبد الغفار بن القاسم الأنصاري ، أحد من ذكروا بمعرفة الحديث ، لكنه كان يضع الحديث .
3-الورع ، والحذر ، والمبالغة في الاحتياط والتيقظ : قال الذهبي : " الكلام في الرواة يحتاج إلى ورع تام ، وبراءة من الهوى والميل ، وخبرة كاملة بالحديث وعلله ورجاله "
قال
ابن حبان : سئل علي بن المديني عن أبيه ؟ فقال : " اسألوا غيري " فقالوا :
سألناك ، فأطرق ، ثم رفع رأسه وقال : " هذا الدين ، أبي ضعيف "
والقاعدة
في أئمة هذا الشأن الشهرة بالدين والصلاح والورع ، لكن العصمة غير ثابتة
لهم ، فقد يتأثر الناقد ببعض العوارض فيصدر حكمه على غير سنن العدل ، فيجب
التفطن إلى ذلك ، كما وقع من جماعة من النقاد في حق بعض النقلة وعلمنا
بالقرائن أن أحكامهم تلك لم تكن منصفة.
4-أن يكون عارفا بأسباب الجرح والتعديل.
القاعدة الثانية: وجوب اعتبار مرتبة الناقد مقارنة بمخالفة :
وذلك بأربع اعتبارات :
الاعتبار الأول :
قلة الكلام في النقلة وكثرته . وهو قدر اعتناء الإمام الناقد بتعديل
الرواة وتجريحهم ، فإن من أثر عنه تتبع ذلك والاعتناء به ، لا يوضع في درجة
واحدة مع من لم يؤثر عنه من البيان لذلك إلا اليسير.
الاعتبار الثاني : التشدد والاعتدال والتساهل .
الاعتبار الثالث :
النظر والإنشاء ، للمتقدمين ، والتحرير والترجيح ، للمتأخرين . والمقصود
أن لا تقيم التعارض مثلاً بين جرح أبي حاتم الرازي وتوثيق الذهبي ، من أجل
أن أبا حاتم إنما جرح بمقتضى بحثه ودرايته بحال الراوي واختبار حديثه ،
والذهبي وثق ترجيحاً لقول من خالف أبا حاتم من النقاد ، باتباع قوانين
الترجيح التي نحن في صدد بيانها . وإنما يقوم التعارض بين كلام المنشئين .
الاعتبار الرابع : الناقد العارف في جرح وتعديل أهل بلده .
قال الشيخ الصياح سدده الله: وهذا
وجدنا له الأثر في أن الناقد إذا عدل أو جرح بلديه كان أصح مذهباً فيهم من
الغرباء ، ولا يستغرب ذلك ، فكونه من أهل داره يوجب مزيد اطلاع .قال حماد
بن زيد : " بلدي الرجل أعرف بالرجل "
القاعدة الثالثة : التحقق من ثبوت الجرح والتعديل:
فهناك روايات عديدة ذكرت عن بعض الأئمة لا توجد عنهم من طريق مسند ، أو وجدت ولكن أسانيدها لم تثبت .
مثالها
: ( تاريخ ) رواه أحمد بن أبي يحيى أبو بكر الأنماطي البغدادي عن أحمد بن
حنبل ويحيى بن معين ، اعتمده ابن عدي في " كامله " في مواضع كثيرة ، وهو
غير ثابت عنهما ، وذلك أن ابن أبي يحيى هذا قال فيه الحافظ الثقة إبراهيم
بن أورمة الأصبهاني : " كذاب "
ومما يشبه هذه القاعدة : أن لا يقبل ما يحكى عن الراوي مما يكون سبباً للقدح فيه إلا بالرواية الثابتة عنه .
فمثل
ما أورده جماعة في القدح في ( أبي صالح باذام ) من طريق سفيان الثوري ،
قال : قال لي الكلبي : قال لي أبو صالح : " كل شيء حدثتك فهو كذب " ،فهذا
مما لا يجوز الاعتماد عليه ، فإن الكلبي هو محمد بن السائب ، رأس في الكذب ،
فكيف يصدق على أبي صالح ؟
القاعدة الرابعة: التحقق من كون العبارة المعينة قيلت من قبل الناقد في ذلك الشخص المعين:
حكاية
ألفاظ علماء الجرح والتعديل من قبل رواتها والناقلين لها عنهم قد يداخلها
الوهم ، فيكون الناقد قال تلك العبارة في راو ، فيذكرها من أخذها عنه في
راو آخر ، ربما شابهه في اسمه أو نسبه ، أو انتقل البصر من ترجمة إلى أخرى .
القاعدة الخامسة : التحقق من لفظ العبارة المنقولة عن الناقد:
ومن
ذلك أن يأمن التصحيف أو التحريف للعبارة بما قد يحيل معناها ، مثل ما وقع
في كثير من الكتب من تحريف قول عبد الله بن عون البصري في ( شهر بن حوشب ) :
" نزكوه " بالنون والزاي في أوله ، حرفت إلى " تركوه " بتاء فوقية في أوله
فراء ، في كثير من المراجع ، وبين العبارتين فرق كبير في المعنى ، فمعنى :
( نزكوه ) قال مسلم بن الحجاج : " أخذته ألسنة الناس ، تكلموا فيه " ،
وقال عياض : " معناه : طعنوا عليه ، مأخوذ من النيزك ، وهو الرمح القصير "
القاعدة السادسة : التحقق من آخر قول للإمام:
والمقصود
أن الناقد قد يعدل الراوي ، ثم يبدو له من أمره ما يوجب جرحه فيصير إليه ،
كما سأل أبو بكر أبو المروذي أحمد بن حنبل عن الحكم بن عطية البصري قال :
كيف هو ؟ قال:" كان عندي ليس به بأس ، ثم بلغني أنه حدث بأحاديث مناكير "
وكأنه ضعفه .
القاعدة السابعة: منع قبول صيغة الجرح والتعديل التي لا تنسب لناقد معين:
وهذا
كقولهم في الراوي : ( تكلموا فيه ) ، و : ( يتكلمون فيه ) ، كما يقع في
كلام البخاري وأبي حاتم الرازي وأبي الفتح الأزدي وغيرهم ، و : ( فيه مقال )
كما يكثر عند المتأخرين ، وما يشبهها من الألفاظ التي لا تعزى إلى ناقد
معين .
ولا اعتبار بأن يكون حاكيها من النقاد المعروفين ، فإنه لم
ينشئها من جهته ، إلا أن يضيف إليها من عبارته ما يبينها ، كما تراه في عدد
من قيلت فيه . زد على ذلك أنها من قبيل الجرح المجمل أيضاً . لكنها تدل
على شبهة الجرح ، فيبحث عن تفسيرها ، فإن عدم عدم أثرها .
القاعدة الثامنة : ملاحظة مذهب الناقد فيما يراه جرحاً ومذهبه فيه مرجوح:
المراد هنا أن تتفطن إلى أن الناقد المعتد به في الجملة قد يقدح بما ليس بقادح في التحقيق .
ومثال
ذلك أن علي بن المديني سأل يحيى بن سعيد عن حديث ابن جريج عن عطاء
الخراساني ؟ فقال : " ضعيف " ، قال : قلت ليحيى : إنه يقول : ( أخبرني ) ،
قال : " لا شيء ، كله ضعيف ، إنما هو كتاب دفعه إليه ". فضعفه لأنه يرى ضعف
التحمل بهذا الطريق ، وهو مذهب مرجوح .
القاعدة التاسعة: مراعاة ميول الناقد المذهبية في القدح في النقلة:
الجرح
والتعديل جميعاً يتأثران بهذا ، فيعدل من ليس بأهل ، وهو الأقل وروداً في
كلامهم ، ويجرح من هو عدل ، ووقع من طائفة بسبب المخالفة في العقائد
والمسالك ، كما قدمت التمثيل له بجرح الجوزجاني لأهل الكوفة بسب فشو التشيع
فيه ، والدولابي لمخالفي الحنفية ، وكما وقع من طائفة من أهل الحديث في
أهل الرأي من أهل الكوفة وغيرهم .
القاعدة العاشرة : اعتبار بشرية الناقد في تأثيرها في إطلاق الجرح أو التعديل:
الناقد
يعتريه ما يعتري البشر من الغفلة أو الغضب ، فيقول القول لا يعني به شيئاً
يتصل بهذا العلم ، وإنما أوقعه فيه بعض هذه العوارض ، فهذا إن كان لفظ جرح
أو تعديل ، فإنه لا يجوز أن يكون له أثر على الراوي الموصوف بذلك .
فمن
مثال ما قد يرد على الناقد من التوهم : ما حكاه حماد بن حفص ( وكان ثقة ) ،
قال شهدت يحيى بن سعيد ( يعني القطان ) وجاء إليه شيخ من أهل البصرة ،
فتذاكرا الحديث ، فقال الشيخ ليحيى : حدثنا ابن أبي رواد بكذا وكذا ، فقال
يحيى : " عرف عليه كذاب " ، فقال : فلما كان بعد ساعة قال : " الأب حدثك أو
الابن ؟ " فقال : بل الأب ، فقال : " الأب لا بأس به ، إنما ظننت أنك تعني
الابن "
القاعدة الحادية عشر: تقدم القول الذي فيه تفصيل:
يراعي
يعقوب بن شَيْبَة في أحكامه على الرواة التفصيل في أحوالهم قبولاً ورداً،
وهذا الأمر يجعل لكلامه أهمية خاصة في الحكم على الرجال، ويمكن تقسيم
تفصيله في أحوال الرجال إلى عدة أقسام:
القسم الأوَّل : الرواة الذين ضُعف حديثهم في بعض الأماكن دون بعض، وهم ثلاثة أضرب :
1- مَنْ حدث في مكان لم تكن معه فيه كتبه فخلط، وحدث في مكان آخر من كتبه فضبط.
2- من حدث عن أهل مصر أو إقليم فحفظ حديثهم، وحدث عن غيرهم فلم يحفظ.
3- من حدث عنه أهل مصر أو إقليم فحفظوا حديثه، وحدث عنه غيرهم فلم يقيموا حديثه.
القسم الثاني : الرواة المُقَدَّمون في بعض شيوخهم.
القسم الثالث : الرواة المُتَكَّلم في روايتهم عن بعض شيوخهم.
القسم الرابع : الترجيح بين الرواة، ومن يقدّم منهم عند الاختلاف.
القسم الخامس : الرواة الذين حديثهم من كتابهم أصح.
القسم السادس : الرواة الذين تُكُلم في حديثهم إذا جمعوا شيوخهم في الرواية، وسبب ذلك.
القاعدة الثانية عشر:الجمع بين الأقوال التي قيلت قدر المستطاع:
بمعنى النظر في أقوال النقاد المتعارضة في الراوي، ومحاولة الجمع بينها بالتفصيل في حديث الراوي.
القاعدة الثالثة عشر: جمع أقوال الحفاظ في نقد الراوي المعين:
وهذا من أسباب الخلل عند المعاصرين في الحكم على الراوي .
القاعدة الرابعة عشر : استقراء أحاديث الراوي لمعرفة حاله:
بحيث
يتتبع حديث الراوي من الكتب التي عنيت بجمع حديثه مثل كتاب الكامل لابن
عدي والضعفاء للعقيلي والمجروحين لابن حبان وغيرها والنظر في موافقته
للثقات من عدمها تكون قرينة مرجحة فيما اختلف فيه.
القاعدة الخامسة عشر: إذا أختلف في الراوي اختلافا شديدا بحيث لا يمكن الترجيح فيكون الراوي صدوق حسن الحديث خروجا من الخلاف
نص على ذلك ابن حجر وابن قطان الفاسي
القاعدة السادسة عشر: مراعاة الجرح النسبي
كأن
يُجرح أحد الرواة مقارنة براوي آخر مثاله :سأل الدارمي يحي بن معين عن
العلاء بن عبدالرحمن، فقال: ليس به بأس. قال: قلت: هو أحب إليك ،أو سعيد
المقبري. قال :سعيد أوثق، والعلاء ضعيف
فتضعيف يحي للعلاء مقارنة بسعيد لا على إطلاقه.
القاعدة السابعة عشر : الجرح مقدم على التعديل بثلاثة شروط:
1- أن يكون الجرح مفسرا لا مجملا
2- أن يجرحه بما هو جارح ، فلو جرحه لأجل أكله بالأسواق، أو لبوله قائما لا يُقبل جرحه
3-أن لا يرد هذا الجرح بناقد آخر معه حجة
ويقدم التعديل على الجرح إذا اختلت الشروط السابق، وكان المعدل إماما معتبرا
القاعدة الثامنة عشر: معرفة ألفاظ ، ومراتب الجرح والتعديل، ومصطلحات الأئمة في ذلك
كتاب ( ضوابط الجرح والتعديل ) للشيخ عبد العزيز العبد اللطيف ،وكتاب ( تحرير علوم الحديث للشيخ الجديع ذكرا شيئا منها
أ.هـ
للاستزادة مراجعة التنكيل للمعلمي
وبعد العرض لهذه القواعد عرضا نظريا ما رأيكم أن نطبقها عمليا على أحد الرواة؟
قال الشيخ علي الصياح سدده الله : الحكم على الراوي ليس أمراً سهلاً ولا صعباً ، فالأمر نسبي . فمن راعى قواعد النقاد وتمرس عليها فلن يعدم نظرات تحقق القول في الراوي ومن لم يتمرس عملياً على دراسة الأقوال في الرواة فلن يستطيع الحكم عليهم
قواعد الجرح والتعديل الشيخ علي الصياح